أخر الاخبار


الفراغ والصمت وصفحات الأيام تتوالى دون أن تكون فيها ذكرى يأنس بها الفؤاد ، الليل يرابط في ثنايا القرية والقمر يسبل نوره المحتشم على كل أرجاءها ، كانت الأفكار تعصف به جاعلة من عقله تائها في أغوار الماضي المحاصرة له في حاضره ... تطلع الحاج الى القنديل المثبت على الحائط متأملا وهيجه لعله يهتدي به إلى سبيل خلاص من قوقعة الصمت المطلق التي أُطبقت عليه لكن دون جدوى.
الذكريات شريدة في أصقاع عمره تُحرك الخامد الكاوي في صدره كجمرة تتوهج ... تماما كفتيل شمعة مهترئ يحترق لينير عتمة الليل الداكنة ، جلس كعادته شاحب الوجه مرتعش الأطراف غارقا في سوداويته المعهودة ليلائم كل هذا جو القرية الكئيب ... هاهو يتحامل على بقاياه النابضة بخفقة اسمها ليستدير بحركة متثاقلة ، أسبل جفنيه المتعبين بإحكام شديد ليبتلع جرعة أخرى من هذا العلقم _ شراب_ فرك عينيه المخمورتين بعد هذا باتجاه ساعة الحائط البيضوية الشكل ، فتأوه كل هيكله مستنجدا أيام عمره الهاربة منه ليحيا داخل امداداته اللامتناهية يبتلعه الفراغ.
في آخر زوايا الذاكرة المضمخة المزدانة بكل ألوان الشقاء ، يمتد الأفق الرمادي على مدى البصر ، مسحة من نور باهت تجلت بآخر ما تبصره العين ليتمثل طيف حسنيّة أمامه ... حين دلفت الغرفة العابقة برائحة عطرها المستخلص من منقوع ورود الجبل أيقن أنها تقف أمامه ، تأمل وجهها القزحي وهو متسمر في مكانه ثم ابتسم قائلا:
_سيجارة واحدة لا تكفي ... لا تكفي!
بدت له الصورة نسخة طبق الاصل فأخذ يحدث نفسه:
_نعم إنها أنت ... حسنية!
_كعادتك في غبش الظلام تزورينني مع شيء من الخوف ينغص علي شعوري بالراحة ...
أنفاسه اللاهثة لا تزال تحاكي نبضات الساعة العتيقة ، كل هذا العياء اللعين يهُده ... يعطل الصحو في نفسه متسكعا في تلافيف مخه ، تطلع بفضول غير معهود محملقا في طيفها الذي يأبى إلا أن يبقى ثابتا يبادله نظرات تكشف له عن وجه شاحب واجم ورأس أبيض غزاه الشيب من هول تلك الليلة..!
انتعش الحاج بعد أن كان يحتضر ، غمره احساس مفعم بالولـه أحس بقلبه يفيض حبا لتستقبله نسمة فجرية باردة لفحت وجهه الشاحب وغمرته بأريج ورود الجبل والبيادر ، أسبل جفنيه المسهدين مبتسما وقال:
_كم أنت رائعة يا حسنية !
قالها وأنفاسه متلاحقة ، مد أصابعه المتشنجة إلى جيب "شرواله" العربي بصعوبة كبيرة ليخرج _جزدانه _الجلدي فتحه فإذا بصورتها به ، أخرجها وراح يحدق في ملامح الطيف ثم إلى الصورة في يده وشبه ابتسامة مرتسمة على محياه ، أحس انه اجتمع بفانوس عشقه وفيروز فؤاده أخيرا...
كسنديان متألق في مهب الرياح انتصب الحاج واقفا مغمض العينين سارحا على أرجاء كوخه ، العياء يفترسه بشراسة لكنه يريد أن يخطو نحو حبيبته إلا أنه خائف من أن تتلاشى كما هو الأمر في كل ليلة ، تمتم بصوت خفيض في أسى _أيمكن ان تكون هي فعلا هذه المرة!_ فتناهى الى إجابة من حيث لا يدري ، يأخذه الصمت في دوامة لا تهدأ ... رأسه يلتهب وكل شيء أمامه يلهث على إيقاع سمفونيات الحنين المشرئبة حرائقه كان كمن يفرقع اللفظ المحنط على الورق المنمق.
خطوتان فقط ... لحظتها ينتهي كل شيء ، كابوس آخر يسكنه يدور بشريطه في رأسه كحية تلتف حول نفسها وأخيرا تحررت من بين شفتيه كلمة قائلا:
_مالك تقف هكذا أيها الأبله ! بنغمة بكائية طاغية ... صمت لبرهة ثم أخذ يسيطر على نفسه ويجمع شتات أفكاره ليدرك الأمر حقا ، أخذ صورة حسنية مجددا قلّبها ليجد العبارة التالية "توفيت سنة "1969" ، نعم توفيت منذ ست سنوات" . كانت هذه الجملة مكتوبة على خلفية الصورة لتذكره دائما بفاجعة تلك الليلة التي غمرته فجأة دون سابق انذار وجرفته كما هو الى سحيق الهاوية ، كان يتمزق حزنا وقهرا وهو يلقي بنظراته الملتهبة الى طيفها والغضب يتجلى في تقاسيم وجهه راسما ظلاله الصارمة ، لم يعد يتحمل أكثر !
تهالك على حافة الحصير بعد أن ضمّد جراحه بشهقة مخبوءة أفصحت عن كل مكامنه ، أشعل سيجارة ثم أغمض عينيه وراح يسترجع صورتها وهي تتجول في الحقول وعلى حافة البرك المائية الآسنة ... كيف كانت تمشي بخفة متحسسة الغض من النبات تحت وطأة قدميها مستأنسة بنسمات الجبل المنعشة.
تذكر كيف ذهب هو وامه لتقديم التعازي لعائلة حسنية بعد أن لدغتها أفعى سامة أودت بحياتها فأخذ ينفث شقاءه وحرمانه عبر دخان لفافته متألما لحاله ، حين انتبه من شروده أطلق زفرة من أعماقه ثم فتح عينيه ليجمع ما بقي له من طاقة وخطى نحو الطيف مد يده الى وجه حسنية فإذا بصورتها تتلاشى كسراب إلى اللامكان.
كيف لم يحدث شيء وهو دخن كل تلك الكمية ، قرر أن يذهب إليه وغضبه المستعر دليله ، انطلق كالبرق يقطع الحقول مستمعا إلى صرير الجنادب ونقيق الضفادع ... كانت رائحة الانتشاء تفوح منه ، دخل إلى زقاق ضيق جهة القرية الشمالية وفجأة كبح خطواته المتسارعة أمام باب خشبي عتيق ليطرقه بصخب وهو يلهث محاولا التقاط أنفاسه الهاربة منه وماكاد يُفتح الباب حتى ثار في وجه تاجر الحشيش صارخا بلا خوف ، "أنا رغم تدخيني لكل تلك الكمية لم أنساها ... لم أنساها"
_كيف تبيعوننا أفيونا مغشوشا..!_
لكن صوته كان يتلاشى وسط قهقهة ساخطة وزمجرة مخيفة من تاجر الحشيش الضخم كأنه لم يكن أصلا. !
| آمال بسمة عريف من الجزائر ، الفائزة بالمرتبة الأولى من فعاليات مسابقات مجلة شغف صنف : القصة القصيرة .

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -